فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

واختلف المتأوّلون في هذه الآية؛ فقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم؛ فمن يشفع لينفع فله نصيب، ومن يشفع ليضر فله كِفْل.
وقيل: الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة، والسيئة في المعاصي.
فمن شَفَع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى بالنميمة والغِيبة أثم، وهذا قريب من الأوّل.
وقيل: يعني بالشفاعة الحسنة الدعاءَ للمسلمين، والسيئةِ الدعاءَ عليهم.
وفي صحيح الخبر: «من دعا بظهر الغيب استجيب له وقال الملك آمين ولك بمثل» هذا هو النصيب، وكذلك في الشر؛ بل يرجع شؤم دعائه عليه.
وكانت اليهود تدعو على المسلمين.
وقيل: المعنى من يكن شَفْعًا لصاحبه في الجهاد يكن له نصيبه من الأجر، ومن يكن شفعًا لآخرَ في باطل يكن له نصيبه من الوِزر.
وعن الحسن أيضًا: الحسنة ما يجوز في الدِّين، والسيئة ما لا يجوز فيه.
وكأنّ هذا القول جامع.
والكِفل الوِزر والإثم؛ عن الحسن وقَتادة.
السدي وابن زيد هو النصيب.
واشتقاقه من الكِساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط.
يُقال: اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كِساء ورَكِبت عليه.
ويُقال له: اكتفل لأنه لم يستعمل الظَّهْر كله بل استعمل نصيبًا من الظهر.
ويستعمل في النصيب من الخير والشر، وفي كتاب الله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [النحل: 28].
والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يُشَفّع؛ لأنه تعالى قال: {مَّن يَشْفَعْ} ولم يقل يُشَفَّع.
وفي صحيح مسلم: «اشفعوا تُؤْجروا ولْيَقْضِ اللَّه على لسان نبيّه ما أحبّ». اهـ.

.قال الألوسي:

{مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ} أي حظ وافر {مِنْهَا} أي من ثوابها، جملة مستأنفة سيقت لبيان أن له عليه الصلاة والسلام فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظًا موفورًا من الثواب، وبه ترتبط الآية بما قبلها كما قال القاضي.
وقال علي بن عيسى: إنه سبحانه لما قال: {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [النساء: 84] مشيرًا به إلى أنه عليه الصلاة والسلام غير مؤاخذ بفعل غيره كان مظنة لتوهم أنه كما لا يؤاخذ بفعل غيره لا يزيد عمله بعمل غيره أيضًا فدفع ما عسى أن يتوهم بذلك، وليس بشيء كما لا يخفى، والشفاعة هي التوسط بالقول في وصول الشخص ولو كان أعلى قدرًا من الشفيع إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية، أو خلاصه عن مضرة مّا كذلك من الشفع ضد الوتر كأن المشفوع له كان وترًا فجعله الشفيع شفعًا، ومنه الشفيع في الملك لأنه يضم ملك غيره إلى نفسه أو يضم نفسه إلى من يشتريه ويطلبه منه، والحسنة منها ما كانت في أمر مشروع روعي بها حق مسلم ابتغاءًا لوجه الله تعالى، ومنها الدعاء للمسلمين فإنه شفاعة معنى عند الله تعالى، روى مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال الملك: ولك مثل ذلك»، وفيه بيان لمقدار النصيب الموعود ولا أرى حسنًا إطلاق الشفاعة على الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بل لا أكاد أسوغه، وإن كانت فيه منفعة له صلى الله عليه وسلم كما أن فيه منفعة لنا على الصحيح.
وتفسيرها بالدعاء كما نقل عن الجبائي أو بالصلح بين اثنين كما روي الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لعله من باب التمثيل لا التخصيص، وكون التحريض الذي فعله صلى الله عليه وسلم من باب الشفاعة ظاهر فإن المؤمنين تخلصوا بذلك من مضرة التثبط وتعيير العدو، واحتمال الذل وفازوا بالأجر الجزيل المخبوء لهم يوم القيامة؛ وربحوا أموالًا جسيمة بسبب ذلك، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما وافى بجيشه بدرًا ولم ير بها أحدًا من العدو أقام ثماني ليال وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرًا كثيرًا، ومن الناس من فسر الشفاعة هنا بأن يصير الإنسان شفع صاحبه في طاعة أو معصية، والحسنة منها ما كان في طاعة، فالجملة مسوقة للترغيب في الجهاد والترهيب عن التخلف والتقاعد، وأمر الارتباط عليه ظاهر ولا بأس به غير أن الجمهور على خلافه. اهـ.

.قال الفخر:

قال أهل اللغة: الكفل: هو الحظ ومنه قوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] أي حظين وهو مأخوذ من قولهم: كفلت البعير واكتفلته إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه.
وإنما قيل: كفلت البعير واكتفلته لأنه لم يستعمل كل الظهر، وإنما استعمل نصيبا من الظهر.
قال ابن المظفر: لا يقال: هذا كفل فلان حتى تكون قد هيأت لغيره مثله، وكذا القول في النصيب، فإن أفردت فلا تقل له كفل ولا نصيب.
فإن قيل: لم قال في الشفاعة الحسنة: {يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا} وقال في الشفاعة السيئة: {يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا} وهل لاختلاف هذين اللفظين فائدة؟
قلنا: الكفل اسم للنصيب الذي عليه يكون اعتماد الناس، وإنما يقال كفل البعير لأنك حميت ظهر البعير بذلك الكساء عن الآفة، وحمي الراكب بدنه بذلك الكساء عن ارتماس ظهر البعير فيتأذى به، ويقال للضامن: كفيل.
وقال عليه الصلاة والسلام: «أنا وكافل اليتيم كهاتين» فثبت أن الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الإنسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، إذا ثبت هذا فنقول: {وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا} أي يحصل له منها نصيب يكون ذلك النصيب ذخيرة له في معاشه ومعاده، والمقصود حصول ضد ذلك {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله تعالى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً} وهي ما كانت بخلاف الحسنة، ومنها الشفاعة في حد من حدود الله تعالى ففي الخبر: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله تعالى في ملكه ومن أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله تعالى حتى ينزع» واستثني من الحدود القصاص، فالشفاعة في إسقاطه إلى الدية غير محرمة {يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا} أي نصيب من وزرها، وبذلك فسره السدي والربيع وابن زيد وكثير من أهل اللغة، فالتعبير بالنصيب في الشفاعة الحسنة، وبالكفل في الشفاعة السيئة للتفنن، وفرق بينهما بعض المحققين بأن النصيب يشمل الزيادة، والكفل هو المثل المساوي، فاختيار النصيب أولًا لأن جزاء الحسنة يضاعف؛ والكفل ثانيًا لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها، ففي الآية إشارة إلى لطف الله تعالى بعباده، وقال بعضهم: إن الكفل وإن كان بمعنى النصيب إلا أنه غلب في الشر وندر في غيره كقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] فلذا خص بالسيئة تطرية وهربًا من التكرار. اهـ.

.قال الفخر:

في المقيت قولان:
الأول: المقيت القادر على الشيء، وأنشدوا للزبير بن عبد المطلب.
وذي ضغن كففت النفس عنه ** وكنت على إساءته مقيتا

وقال آخر:
ليت شعري وأشعرن إذا ما ** قربوها منشورة ودعيت

إلي الفضل أم علي إذا حو ** سبت أني على الحساب مقيت

وأنشد النضر بن شميل:
تجلد ولا تجزع وكن ذا حفيظة ** فاني على ما ساءهم لمقيت

الثاني: المقيت مشتق من القوت، يقال: قت الرجل إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته، واسم ذلك الشيء هو القوت، وهو الذي لا فضل له على قدر الحفظ، فالمقيت هو الحفيظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة، ثم قال القفال رحمه الله: وأي المعنيين كان فالتأويل صحيح، وهو أنه تعالى قادر على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولا ينتقص بسبب ما يصل إلى الشافع شيء من جزاء المشفوع، وعلى الوجه الثاني أنه تعالى حافظ الأشياء شاهد عليها لا يخفى عليه شيء من أحوالنا، فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو في باطل حفيظ عليه فيجازى كلا بما علم منه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} {مقيتا} معناه مُقتدِرًا؛ ومنه قول الزبير بن عبد المطلب:
وذي ضِغْنٍ كففْتُ النفسَ عنه ** وكنتُ على مَساءته مُقِيتَا

أي قديرًا.
فالمعنى إن الله تعالى يعطي كل إنسان قُوته؛ ومنه قوله عليه السَّلام: «كفى بالمرء إثمًا أن يُضَيّع من يَقيت» على من رواه هكذا، أي مَن هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره؛ ذكره ابن عطية.
يقول منه: قُتُّه أقوته قَوْتًا، وأَقَتُّه أقِيته أقاتة فأنا قائت ومُقيت.
وحكى الكسائي: أقات يقيت.
وأما قول الشاعر:
إنّي على الحساب مُقِيتُ

فقال فيه الطبري: إنه من غير هذا المعنى المتقدم، وإنه بمعنى الموقوف.
وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ.
وقال الكسائي: المقيت المقتدر.
وقال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القَوْت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان.
وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كلّ رجلٍ قوته.
وجاء في الحديث: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يَقوت» و«يقيت» ذكره الثعلبي، وحكى ابن فارس في المُجْمَل: المقيت المقتدر، والمقيت الحافظ والشاهد، وما عنده قِيتُ ليلةٍ وقوت ليلة. والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

إنما قال: {وَكَانَ الله على كُلّ شَئ مُّقِيتًا} تنبيها على أن كونه تعالى قادرا على المقدورات صفة كانت ثابتة له من الأزل، وليست صفة محدثة، فقوله: {كَانَ} مطلقا من غير أن قيد ذلك بأنه كان من وقت كذا أو حال كذا، يدل على أنه كان حاصلا من الأزل إلى الأبد. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)}
الشفيع يخلِّص للمشفوع له حاله. ويستوجب الشفيعُ- من الله سبحانه على شفاعته- عظيمَ الرتبة، ومَنْ سعى في أمرنا بالفساد تحمَّل الوِزْرَ واحتقب الإثم. اهـ.